فصل: تفسير الآية رقم (6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (6):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [6].
{إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر: {وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب والجبال والبحار وغير ذلك: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُون} أي: لآيات عظيمة دالة على وحدة مبدعها، وكمال قدرته، وبالغ حكمته، وخص المتقين لأنهم المنتفعون بنتائج التدبر فيها، فإن الداعي إلى النظر والتدبر إنما هو تقواه تعالى، والحذر من العاقبة.
تنبيه:
في هذه الآيات إشارة إلى أن الذي أوجد هذه الآيات الباهرة، وأودع فيها المنافع الظاهرة، وأبدع في كل كائن صنعه، وأحسن كل شيء خلقه، وميز الإنسان وعلمه البيان- يكون من رحمته وحكمته اصطفاء من يشاء لرسالته ليبلغ عنه شرائع عامة، تحدد للناس سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في الآخرة، كما أشار إلى ذلك بقوله:

.تفسير الآيات (7- 10):

القول في تأويل قوله تعالى: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [7- 10].
{إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} أي: فلا يتوقعون الجزاء: {وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} أي: لا يتفكرون فيها:
{أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أي: بسببه، إلى مأواهم، وهي الجنة، وإنما لم تذكر تعويلاً على ظهورها، وانسياق النفس إليها، لاسيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي: من تحت منازلهم أو بين أيديهم.
{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} أي: دعاؤهم هذا الكلام؛ لأن: {اللَّهُمَّ} نداء، ومعناه: اللهم إنما نسبحك، كقول القانت: اللهم إياك نعبد. يقال: دعا يدعو دعاء ودعوى، كما يقال: شكا يشكو شكاية وشكوى، ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره آية: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: من الآية 48]: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} أي: ما يحيي به بعضهم بعضاً، أو تحية الملائكة إياهم، كما في قوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23- 24]، أو تحية الله عز وجل لهم كما في قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يّس: 58]. والتحية: التكرمة بالحالة الجلية، أصلها: أحياك الله حياة طيبة. والسلام بمعنى السلامة من كل مكروه {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} أي: وخاتمة دعائهم هو التسبيح: {أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: حمده تعالى: والمراد من الآية أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم: سبحانك اللهم وبحمدك. وإيثار التعبير عن وبحمدك بقوله: {وآخِرُ} إلخ رعاية للفواصل، واهتماماً بالحمد وما معه من النعوت الجليلة تذكيراً بمسماها، والآية تدل على سمو هذا الذكر؛ لأنه دعاء أهل الجنة وذكر الملائكة كما قالوا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: من الآية 30] ولذلك ندب قراءته بعد تكبيرة الإحرام.
قال الرازي: لما استسعد أهل الجنة بذكر سبحانك اللهم وبحمدك، وعاينوا ما فيه من السلامة عن الآفات والمخالفات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية، والمقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء.
ولما بيَّن تعالى وعيده الشديد، أتبعه بما دل على أن من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيوية؛ لأن حصوله في الدنيا كالمانع من بقاء التكليف فقال تعالى:

.تفسير الآية رقم (11):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [11].
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ} وهم الذين لا يرجون لقاءه تعالى لكفرهم: {الشَّرَّ} أي: الذي كانوا يستعجلون به، فإنهم كانوا يقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، ونحو ذلك: {اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ} أي: تعجيلاً مثل استعجالهم الدعاء بالخير: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي: لأميتوا وأهلكوا: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: في ضلالهم وشركهم يترددون.
لطيفة:
زعم الزمخشري أن معنى استعجالهم بالخير، أي: تعجيله لهم الخير، وضع الأول موضع الثاني إشعاراً بسرعة إجابته لهم، وإسعافه بطلبتهم، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيلٌ لهم. وعندي أنه صرف اللفظ الكريم عن ظاهره بلا داع. ولا بلاغة فيه أيضاً وإن توبع فيه. والحرص على موافقة عامل المصدر له ليكونا من باب واحد، غير ضروري في العربية، والشواهد كثيرة.
وجوز الرازي أن يكون: {يُعَجِّلُ} أصله يستعجل، عدل عنه تنزيهاً للجناب الأقدس عن وصف طلب العجلة، فوصف بتكوينها، ووصف الناس بطلبها؛ لأنه الأليق ولعل الأليق أن: {اسْتِعْجَالَهُم} مصدر لفعل دل عليه ما قبله، والتقدير: ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلون به استعجالهم. وإنما حذف إيجازاً؛ للعلم به، ويوافقه قوله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: من الآية 11] فإنه في معنى ما هنا.

.تفسير الآية رقم (12):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [12].
{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا} أي: لكشفه وإزالته: {لِجَنبِهِ} حال من فاعل دعا واللام بمعنى على أي: على جنبه، أي: مضطجعاً: {أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ} أي: مضى على طريقته الأولى {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ} أي: كشفه: {مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: من الإعراض عن الذكر، وإتباع الشهوات. والآية سيقت احتجاجاً على المشركين، بما جبلوا عليه كغيرهم من الالتجاء إليه تعالى عند الشدائد، علماً بأنه لا يكشفها إلا هو، ليطرحوا عبادة ما لا يضر ولا ينفع، ويستيقنوا أنه الإله الأحد، الذي لا يعبد سواه، وفيها نعي عليهم سوء منقلبهم، إثر كشف كرباتهم، وتحذير من مثل صنيعهم.
ثم ذكرهم تعالى بعظيم قدرته مما وصل إليهم من نبأ الأقدمين ليتقوه، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (13):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [13].
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} أي: بالتكذيب والكفر: {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي: فقرر عليهم الحجة بالوجوه الكثيرة. وما كانوا ليؤمنوا بتلك البينات ولا بغيرها، فجزاهم بالإهلاك المعروف فيهم {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}.

.تفسير الآية رقم (14):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [14].
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} الخطاب للذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، أي: استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناها، لننظر كيف تعملون من خير أو شر، فنعاملكم حسب عملكم.

.تفسير الآية رقم (15):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [15].
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش، بأنهم إذا قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحججه الواضحة، قالوا له: ائت بقرآن غير هذا، أي: جئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر. قال تعالى لنبيه: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي}: أي: ليس ذلك إلي، إنما أنا مبلغ عن الله تعالى.
قيل: إنما اكتفى بالجواب عن التبديل؛ للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أولاً من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها. وأن التصدي لذلك، مع كونه ضائعاً، ربما يعدُّ من قبيل المجاراة مع السفهاء، إذ لا يصدر مثل ذلك الاقتراح عن العقلاء، ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى، فهو جواب عن الأمرين بحسب المآل والحقيقة. وقوله: {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} أي: بالتبديل والنسخ من عند نفسي.
قال السيوطي في الإكليل: استدل به من منع نسخ القرآن بالسنة.
قال الزمخشري: فإن قلت: فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأمكرهم في هذا الاقتراح، قلت: الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك، وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر. وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع، ولاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فينجو منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه، وتصحيحاً لافترائه على الله- انتهى-.
ولما بيَّن بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته، أشار إلى تحقيق حقية القرآن، وكونه من عنده تعالى بقوله:

.تفسير الآية رقم (16):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [16].
{قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ}.
قال الزمخشري: يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع، ولم يشهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء، فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً، يبهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان، ويكون ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه، وألصقهم به.
{وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ} أي: ولا أعلمكم به على لساني: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ} أي: من قبل نزوله، لا أتعاطى شيئاًً مما يتعلق بنحوه، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان، فتتهموني باختراعه {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي: فتعلموا أنه ليس إلا من الله، لا من مثلي.
قال الزمخشري: وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} من إضافة الافتراء إليه.
تنبيه:
رأى أبو السعود أن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام؛ لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم، واقتصار حاله عليه الصلاة والسلام على إتباع الوحي، وامتناع الاستبداد بالرأي، من غير تعرض هناك ولا هاهنا؛ لكون القرآن في نفسه أمراً خارجاً عن طوق البشر، ولا لكونه عليه السلام غير قادر على الإتيان بمثله، أن يستشهد هاهنا على المطلوب مما يلائم ذلك من أحواله المستمرة في تلك المدة المتطاولة، من كمال نزاهته عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائناً من كان. كما ينبئ عن تعقيبه بتظليم المفتري على الله تعالى.
والمعنى: قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي، لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال، ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة. فضلاً عما فيه كذب أو افتراء، أفلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد، مستحيل أن يفتري على الله، ويتحكم على الخلق كافة، بالأوامر والنواهي الموجبة لسفك الدماء، وسلب الأموال، ونحو ذلك، وأن ما أتي به وحي مبين، تنزيل من رب العالمين- انتهى-.
وما استنسبه رحمه الله، اقتصر عليه ابن كثير، ثم استشهد بقول هرقل ملك الروم لأبي سفيان، فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال هرقل له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت لا! وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة، وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق.
والفضل ما شهدت به الأعداء

فقال له هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله.
وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة: بعث الله فينا رسولاً نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة.
وعن ابن المسيب: ثلاثاً وأربعين سنة، والصحيح المشهور الأول.

.تفسير الآية رقم (17):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [17].
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} استفهام إنكاري معناه الجحد. أي: لا أحد أظلم ممن تقوَّل على الله تعالى، وزعم أنه تعالى أرسله وأوحى إليه، أو كفر بآياته، كما فعل المشركون بتكذيبهم للقرآن، وحملهم على أنه من جهته عليه الصلاة والسلام.
{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} أي: لا ينجون من محذور، ولا يظفرون بمطلوب، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: من الآية 93]، وترتيب عدم الفلاح على من افترى الوحي، وعدَّه صادق بلا مرية، فإن مفتريه يبوء بالخزي والنكال، ولا يشتبه أمره على أحد بحال.
وقد ذكر أن عَمْرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب- وكان صديقاً له في الجاهلية، وكان عَمْرو لم يسلم بعد- فقال له مسيلمة: ويحك يا عَمْرو! وماذا أنزل على صاحبكم- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- في هذه المدة؟ فقال: لقد سمعت أصحابه يقرؤون سورة عظيمة قصيرة. فقال: وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ} إلخ [العصر: 1- 3]، ففكر مسيلمة ساعة ثم قال: وأنا قد أنزل عليَّ مثله! فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر.. إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر. كيف ترى يا عَمْرو؟ فقال له عَمْرو: والله! إنك لتعلم أني أعلم أنك لكذاب.
وقال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس، فكنت فيمن انجفل منه، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. قال: فكان أول ما سمعته يقول: «أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» قال حسان:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ** كانت بديهته تأتيك بالخبر